الفصل الأول: طفلُ بلخ المُثير
أطلّ القرنُ الثالثُ عشر- الحقبةُ البائسةُ التي تخوَّفَ الناسُ من قدومها منذ غابر الأزمان- برأسه. الشيطانُ، المجبولة طينتُه من النار كان قد هبط إلى الأرض حتى يدور في دوامةِ الحياة الآدمية، محاولاً العثورَ على أدلةٍ وبراهينَ بأنَّ الإنسانَ حقيرٌ في ذاته، ودمويٌ في أفعاله، وبلا شرفٍ في حقيقةِ صفاته، ومقابلَ قوةِ الشرِّ الشيطانيةِ هذه كانت هناكَ روحٌ أثيريةٌ خيّرةٌ؛ منذ تجلّيها تجوبُ الجهاتِ الستةَ للأرضِ باستمرار بحثاً عن مخلوقٍ من طبيعتِها حتى تملأ عليه فراغَ وحدتِهِ الرهيبة. وخلافاً للدور العدائي بين الروح الأثيرية والشيطان، كان الإثنان ممثلَين لعرضٍ واحد يقوم فيه الأخيرُ بسَوقِ الإنسان نحو الرجسِ والفساد، بينما يهديه الثاني نحو النور والصحة والجمال، ولن تخلو الأرضُ من هذين الخصمين أبداً. الروحُ الأثيرية تطيرُ في كل مكانٍ وزمان، والشيطان لايعرف الكللَ منهمكاً في خداعه.
كان القرن الثالث عشر قرن الدور الشيطاني الشرير، وحتى يُثبت الشيطانُ أن الله قد أخطأ في خلق الإنسان، وأن الإنسان لايصدرُ عنهُ سوى الفساد والرذيلة. فعل كل ما بوسعه في هذا الطريق؛ لكن أحداً لم يكن يعلمُ متى وأين يخرجُ القدرُ بوجههِ القبيحِ للناس، فلا حكيماً كان يعلمُ ذلك ولا مُنجِّماً وصلهُ خبر. ربما كان القدر والأرض على موعدٍ حتى يملأها بالنار والدماء والمعارك والخراب. كان العصر الجليدي الرابع المظلم قد بدأ في الأراضي الشمالية، لتتحول الغابات إلى جبالٍ من جليد، دافعةً الناس التعساء باتجاه الجنوب، وفي الجنوب كانت معارك صليبية من نوعٍ آخرَ قد نشبت بين أمراء الممالك الأوروبية، لغزو القدس مرة أخرى لتزيينها من أجل قيامة المسيح، بينما في الشرق وحد جنكيز خان بعبقريته المدهشة قبائل الصحراء في منغوليا، ليستحق لقب الخان الأعظم، وينطلقَ ليؤسس لأعظم أمبراطورية دموية وعدوانية على وجه الأرض.
عالم من الهيمنة لم يتكرر قط في العالم بعد جنكيز. وضعَ الخان الأعظم يده في الصين على كنوزٍ صرفتْ نظره عن الغرب وإيران، ومن الصين جمعَ ثروةً طائلةً صمم إثرها أن يدخلَ في تجارةٍ مع الهند وإيران.
صمم جنكيز خان -وكان قد تعلم التجارة من الصين وطريق الحرير- أن يستولي على خزائن الهند وبلاد فارس من خلال التجارة ودون احتلالها، حيثُ كتبَ رسالةً إلى علاء الدين محمد خوارزمشاه ملك إيران داعياً إياه إلى إقامة علاقات تجارية.
إلى الشمال الغربي من آسيا الوسطى كانت حكومة الخوارزميين الإيرانية المتشكلة من العشائر التركمانية تمتنع عن دفع الجزية إلى الخليفة العباسي في بغداد. امتدت رقعة مساحة الدولة الخوارزمية من أعالي جبال الصين الوعرة في الشرق إلى آخر مدنهم في مراغة. خضع بحر طبرستان في الشمال لسلطتهم، وفي الجنوب حتى شيراز وبوشهر كانوا يسيّرون دورياتِهم على مرأى ومسمع الخليفة العباسي. في ذلك اليوم كان “علاء الدين محمد” وقد عاد للتو من الصيد إلى القصر منهمكاً في ترويضِ العقبان المفترسةِ التي كانَ جنكيز خان قد أهداهُ إياها، العقبانِ التي كان يستخدمها علاء الدين لصيد الذئاب والثعالب. وضعَ السلطان علاء الدين بحذاقة وحرفية الأقنعة الجلدية على عيون العقبان، وألقى أمام كل منها قطعة من لحم ذئب تم صيده حتى ينطبع طعم لحم الذئب في ذهن العقبان المفترسة.
علاء الدين مع تسلمه ومنذ وهلة قريبة وعبر سفيره كمال الدين الرازي في الصين أخباراً مرعبةً عن حملة التتار على الصين، فتح رسالة جنكيز خان التي مهرها بالدماء وشمع العسل بخوفٍ وتردد، وتعرف على ختمه المرسومِ من قبل سفيره، وفهمَ أن عاصمة الصين الشرقية قد سقطت في قبضةِ جنكيز خان.
كتب جنكيز خان باختصار ومن دون أي تحيات ولا كلمات إضافية:
” أنا جنكيز خان حاكم بلاد المشرق حيث تطلع الشمس أكتبُ إلى حاكم المناطق الغربية حيث تغرب الشمس أن تعال لنؤسس لتجارة فيما بيننا. أنا أعتبرك مساوياً لأبنائي.”
لم يلتفت علاء الدين في رسالة جنكيز خان إلى مقترح التجارة، كما لم يرتح لإحجام جنكيز عن الهجوم على إيران، بل فقط غضب لأن جنكيز خان خاطب نفسه بحاكم بلاد المشرق وناداه هو بحاكم المناطق الغربية واعتبره مساوياً لأبنائه، فعلاء الدين لم يكن يعتبر مملكته منطقة، كما كان يُسمي نفسه بـالإسكندر الثاني، لهذا وبعد مدة وجيزة قام الأمير المحلي لمدينة “أترار” من جانب السلطان علاء الدين بالإغارة على القافلة التجارية الثانية لجنكيز خان ومصادرتها، فثارت ثائرة جنكيز خان مما فعله الأمير المحلي لعلاء الدين، لكنه لم يفعل شيئاً، ليرسل قافلته التجارية الثالثة يقودها مسيحيان ومسلم باتجاه إيران، وهذه المرة أيضاً قام الأمير المحلي لمدينة أترار بنهب القافلة. وأرسل حمولة القافلة إلى “تركان خاتون” أم الملك(علاء الدين)، كما قام بقطع رؤوس قادة القافلة وأرسلها إلى جنكيز خان.
مع هذا الفعل كتبَ جنكيز خان رسالة إلى علاء الدين جاء فيها فقط: ” أنت اخترتَ الحرب.”، ليغض جنكيز خان النظر عن السيطرة على الصين ويولي وجهه شطرَ الغرب، آخذاً معه جيشاً جراراً يحملُ معهُ الخراب والدمار والقتلَ حيثما حلّ وعبر. أطلقَ جنكيز خان بعد ذلك إسم اللص على السلطان علاء الدين، وأقسم أن يهاجم كل مكان تطأه قدمُ فرسِ السلطان علاء الدين. لقد استغرق المغول عدة سنوات للوصول إلى الغرب، مع أن الناس سمعوا أنه عندما يقرر التتار ، فإنهم يصلون إلى المدينة قبل أخبارهم.
هاهي بلخ تتربعُ كمدينة عظيمة، وبينما لم ترد بعد أخبار عن السفاحين التتار، كانت طريق الحرير تمتد آمنةً وكذلك مركز بلاد فارس، وأشعةُ الشمسِ الذهبيةِ تطبعُ قبلاتها الحارةَ بسخاء على كروم العنب، بينما تتعلق عرائش العنب على أبواب وأسوار البساتين مثل لصوص جشعين… ما نزلت قطرة حبر على ورق إلا وكانت جلبة الكروم حديثها، وما نُظم شعرٌ إلا وهو يبكي دماً مراً على كرم عنبٍ ما. كان الإيرانيون الطاجيك القدماء قد قاموا بتوسيع بلخ حتى أكبر وأجمل من سمرقند أولى مدنهم.
دیدگاهها
هیچ دیدگاهی برای این محصول نوشته نشده است.